أول مرتبة من مراتب الرجال، إذا أحيا الله في قلب المؤمن الحياة الإيمانية، لكن لا يجعلها مثل الحياة العيسوية؛ فلا يولى وجهه نحو الدار الآخرة، ويترك الدنيا بالكلية، من أجل هذا جاء لنا صلى الله عليه وسلم بالمزية في هذه الحياة الإيمانية المحمدية فقال صلى الله عليه وسلم {إن لربك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه } [1] يعطي لكل واحد حقه، يعطي ما في قلبه لله، ويعطي جسمه وجوارحه لخلق الله، وهذه هي القسمة العادلة، وغيرها { قسمة ضيزى} النجم 22 فالذي يجعل قلبه وكله للناس، فقد ضيع مكانته عند رب الناس، والذي يجعل قلبه وجوارحه للدار الآخرة، يصبح وقد ترك المهام والتكاليف التي كلفه بها رب العالمين، والتي منها {قوا أنفسكم وأهليكم نارا } التحريم 6 والتى منها {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى } طه 132 والتى منها {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } النور 37 هذه كلها تكليفات كلفنا بها الله، فالذي يحيا الحياة الإيمانية، ويخرج هائما في الجبال أو في الصحارى أو في البراري، لا يشعر بليل أو نهار، ولا يعرف للذهب أو للمال مقدار؟ أهذه الحياة المطلوبة عند الواحد القهار؟ لا، هذه منزلة دنية، ولذلك قال فيها صلى الله عليه وسلم {إن عيسى بن مريم مشى على الماء، ولو زاد يقينا لمشى في الهواء } [2] كأنه يوجد يقين أعلى من هذا، حتى لا نقف عند المقام العيسوى، لأن المقام العيسوى يجذب كثيرا من السالكين، فيريد أن يعرف الناس الذي في بيوتهم، والذي في صدورهم، يريد أن يحيي الموتى بإذن الله، يريد أن يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، ومعتقدا أن هذا هو المقام العالي، النبي قال: لا، وفى رواية أخرى للحديث { لو أن أخى عيسى كان أحسن يقينا مما كان، لمشى في الهواء، و صلى على الماء } [3] فلا تقف عند هذا المقام، ماذا نفعل؟ ندرس، فالمدارسة تعلى الهمة للسالكين ، وحبذا لو كانت في مدرج سيد الأولين والآخرين، وإذا كان المحاضر يتلقى مباشرة الإرسال المباشر من محطة سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، ليست مدارسة الكتب، كما قلت لأنه القوم لم يكتبوا فى كتبهم الا ما تتحمله العقول والإنسان آلذي يريد ميسور يمشي فى طريق المقربين؛ لابد له أن يفتح عقله الوهبى للكلام العالي النازل من فيض فضل الله، ويضع عقله ال ** بى هنا لتسيير شئون الدنيا، وتدبير أمور الحياة؛ للقيام بالمهام التي كلفه بها الله في شئون الأسرة والبيت، لكن السير والوصول إلى الله، يحتاج إلى العقل الموهوب الذي وهبه لك الله، فمقام الروحانيين الذين يقول فيهم أحد الصالحين {لا تخلو الأرض من مائة ألف على قدم عيسى عليه السلام} الذين نراهم جميعا، والذين تعجبنا أحوالهم، والذين نأنس بأخبارهم وأقوالهم، والذين نظن أنهم في الدرجة العلا، النبي قال: لا، لازال يوجد يقين أعلا من هذا اليقين، وهؤلاء جميعا لن يصل واحد منهم إلى يقين سيدنا عيسى عليه السلام، فكل الذي سيظهر في هذا المقام، أو ظهر، لن يصل أحد منهم إلى مقام سيدنا عيسى، ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم ويخبر، أن هناك يقينا فوق يقين سيدنا عيسى عليه السلام، فإذا حيا الإنسان الحياة الإيمانية، التي جاءت في الشريعة المحمدية {وكذلك جعلناكم أمة وسطا } البقرة 143 تفجرت في قلبه عيون العلوم الإلهية التي يحتاج إليها في سيره وسلوكه إلى الله، وكل واحد منا له علم خاص به، وعطاء الله لا نهاية له، ولا حد له، ولا مدى له، لأن {لله طرائق بعدد أنفاس الخلائق } والآفة التي تعطل أهل هذا العلم، أو أهل هذا المقام، منهم من يأخذ علوم باطن القرآن، ومنهم من يأخذ علوم نور الفرقان، ومنهم من يتصل بقلبه بالكائنات، فيحصل حكمة وجودها، وسبب إنشائها بسر من الله، آفة هؤلاء - وعلومهم كثيرة وكثيرة -: إذا قال أو ادعى كل واحد منهم أنه حصل النهاية، وأن ما عنده هو نهاية العلوم، وغاية الفهوم، وليس هناك علم مكنون غير ما عنده، هذه هي الآفة التي تحجبه في هذا المقام ، ولذلك رسول الله فورا، بين أن نور هذا العلم، والسبيل الذي يبين لك صواب هذا العلم، إذا ظهرت عليك محاسن روحانية، وجمالات ربانية، يراها أهل الخصوصية، مثلما ظهر فى يوسف عليه السلام مضت هذه المحاسن تجعل من يحبونك، ومن يأنسون بك، إذا جلسوا بين يديك؛ يستمعون إلى العلم المفاض على قلبك من الله، ولا ينشغلون بشئ، ولا يحسون بشئ، حتى ولو كان هناك سكين، وقطع جزءا منه، أو عضوا منه، لا يشعر {فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} يوسف 31 وبعد هذا، مقام أهل الحكمة {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب } البقرة 269 وبعد هذا مقام أهل المواجهات، وأهل المكاشفات، وأهل المكافحات - وإمامهم سيدنا موسى عليه السلام -، وبعد هذا مقام أهل الخلة الكرام، الذين باعوا كل شئ لله، وجعلوا أجسامهم وأولادهم وأزواجهم وأحوالهم وأنفاسهم كلها لله ، ومع ذلك يبين رسولكم الكريم صلوات الله وسلامه عليه، في رسالة صغيرة من سيدنا إبراهيم لكم، ألا تركنوا إلى أي مقام من هذه المقامات، فهي منازل المريدين والمحبين والطالبين وهنآك بعد ذلك، منازل المرادين، والمحبوبين، والمطلوبين، والمخلصين لله العظيم، من أجل هذا قال سيدنا إبراهيم {أقريء أمتك مني السلام واخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان} [4] كل هذه المنازل منازل الجنة، وهناك بعد ذلك صاحب الجنة، وخالق الجنة، ورب الجنة، ونعيم الجنة، وسر قرب أهل القرب في الجنة، وهو الله {فمن كان الله مراده فمقعد الصدق وراءه }، فهو لا يريد أي شئ من هذه المنازل كلها، ولذلك فأحد الصالحين يبين لنا منازل الأفراد وإمامهم سيد العباد صلى الله عليه وسلم يقول فيه مقام خليل الله بدء لسيره وقدس كليم الله إكرام مبدء كل مضت هذه المقامات التي ذكرناها والمنازل، تحدث عنها العارفون وذكروها وفصلوها، وفصلوا علومهم، وفصلوا أحوالهم، وفصلوا أنورهم، وبينوا كل شئ عنهم، فماذا بعد هذا؟ ، مقام الأفراد الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم {سيروا، سبق المفردون - وفي رواية أخرى: سيروا، سبق المفردون - الذين أفردهم الله بالقصد، ما حال هؤلاء؟ قال - يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفاقا} [5] هؤلاء ما هو همهم؟ هؤلاء همهم كله في ذكر الله، قلوبهم لا تغفل عن الله طرفة عين ولا أقل، لا يبغون بذلك منازل، ولا درجات، ولا مقامات، ولا شهرة، ولا مظهرا، ولا مخبرا، بل يريدون وجهه عز وجل، لا يبغون بذلك بديلا، وفي ذلك تقول السيدة رابعة العدوية رضى الله عنها: كلهم يعبدون من خوف نار ويرون النجاة حظا جزيلا اقتراحات للبان يدخلوا الجنان فيحظوا بنعيم ويشربوا سلسبيلا ليس لي فى النار والجنان حظ أنا لا أبغى بحبي بديلا أين هؤلاء القوم؟ وما أسرارهم؟ وما أحوالهم؟ هؤلاء لا تباح أسرارهم إلا لمن ملكنا أرواحهم، ووضعوا نفوسهم وراء ظهورهم، لأنهم يقولون {مكتوب على حضرة القدوس: لا ينال سرا واحدا منها أرباب النفوس} هؤلاء إسمهم الأفراد، وهؤلاء الجالسون على أرآئك القرب والوداد، وهؤلاء الذي في أيديهم كل كنوز المنعم الجواد، وهؤلاء هم الحاملون لأعلام الهداية والإرشاد، ومؤيدون في كل حركاتهم وسكناتهم من رب العباد
{1} عن سلمان فى صحيخ ابن حبان و جامع المسانيد وصحيح ابن خزيمة، وفى البخارى باختلاف الفاظ و قد ورد عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن رسول الله فى موضع آخر ونصه {فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينيك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا ، وأن لزورك عليك حقا، رواه البخارى ومسلم وغيرهم كثيرون باختلاف ألفاظ وزيادة أونقصان} {2} الحكيم عن زافر بن سليمان فى كنز العمال للمتقى الهندى البداية والنهاية لابن كثير، وابن أبي الدنيا {3} رواه الديلمى عن معاذ بن جبل و فى كنز العمال للمتقى الهندى {4} سنن الترمذى عن ابن مسعود {5} رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة |
مدونة اصلاح القلوب
عبدالباسط ابومعاذ
0 التعليقات:
إرسال تعليق